فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)}.
قال بعض أهل العلم: أن الآية التي هي {وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ} [الحج: 3] نازلة في الأتباع الجهلة الذين يجادلون بغير علم، اتباعًا لرؤسائهم، من شياطين الإنس والجن، وهذه الآية الأخيرة في الرؤساء الدعاة إلى الضلال المتبوعين في ذلك، ويدل لهذا أنه قال في الأولى {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ} وقال في هذه {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله} فتبين بذلك أنه مضل لغيره، متبوع في الكفر والضلال، على قراءة الجمهور بضم ياء يضل. وأما على قراءة ابن كثير، وأبي عمرو: بفتح الياء، فليس في الآية دليل على ذلك، وقد قدمنا معنى جدال الكفرة في الله بغير علم، فأغنى عن إعادته هنا.
وقال بعض العلماء في قوله في هذه الآية الكريمة {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي بدون علم ضروري، حاصل لهم بما يجادلون به {وَلا هدًى} أي استدلال، ونظر عقلي، يهتدي به العقل للصواب {وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} أي وَحْي نير واضح، يعلم به ما يجادل به، فليس عنده علم ضروري ولا علم مكتسب بالنظر الصحيح العقلي، ولا علم من وَحْي، فهو جاهل محض من جميع الجهات، وقوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} حال من ضمير الفاعل المستكن في: يجادل: أي يخاصم بالباطل في حال كونه ثاني عطفه: أي لاوي عنقه عن قبول الحق استكبارًا وإعراضًا. فقوله: ثاني اسم فاعل ثَنْى الشيء إذا لواه وأصل العطف الجانب، وعطفا الرجل: جانباه من لدن رأسه إلى وركيه، تقول العرب: ثنى فلان عنك عطفه: تعني أعرض عنك. وإنما عبر العلماء هنا بالعنق فقالوا: ثاني عطفه: لاوي عنقه: مع أن العطف يشمل العنق وغيرها، لأن أول ما يظهر فيه الصدود عنق الإنسان، يلويها، ويصرف وجهه عن الشيء بليها. والمفسرون يقولون: إن اللام في قوله: {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله} ونحوها من الآيات مما لم تظهر فيه العلة الغائية، كقوله: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] الآية. ونحو ذلك لام العاقبة، والبلاغيون يزعمون أن في ذلك استعارة تبعية، في معنى الحرف. وقد وعدنا بإيضاح ذلك في سورة القصص.
ونقول هنا: إن الظاهر في ذلك: أن الصواب فيه غير ما ذكروا، وأن اللام في الجميع لام التعليل، والمعنى واضح لا إشكال فيه كما نبه عليه الحافظ ابن كثير رحمه الله في مواضع من تفسيره.
وإيضاح ذلك: أن الله هو الذي قدر على الكافر في أزله أن يجادل في الله بغير علم في حال كونه لاوي عنقه إعراضًا عن الحق، واستكبارًا. وقد قدر عليه ذلك ليجعله ضالًا مضلًا. وله الحكمة البالغة في ذلك، كقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} [الكهف: 57] أي لئلا يفقهوه. وكذلك {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ} [القصص: 8] الآية: أي قدر الله عليهم أن يلتقطوه، لأجل أن يجعله لهم عدوًا وحزنًا. وهذا واضح لا إشكال فيه كما ترى.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية: من إعراض بعض الكفار عن الحق واستكبارهم أوضحه في آيات أخر من كتاب الله، كقوله تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ولى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} [لقمان: 7] وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون: 5] وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول رَأَيْتَ المنافقين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودا} [النساء: 61] وقوله تعالى: عن لقمان في وصيته لابنه {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان: 18] الآية أي لا تمل وجهك عنهم، استكبارًا عليهم. وقوله تعالى: عن فرعون {وَفِي موسى إِذْ أرسلناهُ إلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فتولى بِرُكْنِهِ} [الذاريات: 38- 39] فقوله: {فتولى بِرُكْنِهِ} بمعنى: ثنى عطفه. وقوله تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [فصلت: 51] الآية إلى غير ذلك من الآيات: وقوله تعالى: في هذه الآية الكريمة {لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ} أي ذل وإهانة. وقد أذل الله الذين جادلوا في الله بغير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير: كأبي جهل بن هشام، والنضر بن الحارث بالقتل يوم بدر.
ويفهم من هذه الآية الكريمة أن من ثنى عطفه استكبارًا عن الحق وإعراضًا عنه عامله الله بنقيض قصده فأذله وأهانه. وذلك الذل والإهانة نقيض ما كان يؤمله من الكبر والعظمة.
وهذا المفهوم من هذه الآية دلت عليه آيات أخر كقوله تعالى: {إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هم بِبَالِغِيه} [غافر: 56] وقوله في إبليس لما استكبر {فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين} [الأعراف: 13] والصغار: الذل والهوان، عياذًا بالله من ذلك، كما قدمنا إيضاحه. وقوله: {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق} أين حرقه بالنار، ونذيقه ألم حرها يوم القيامة: وسمى يوم القيامة: لأن الناس يقومون فيه له جل وعلا، كما قال تعالى: {أَلا يَظُنُّ أولئك أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين} [المطففين: 4- 6].
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)}.
المعنى: أن الكافر إذا أذيق يوم القيامة عذاب الحريق، يقال له ذلك: أي هذا العذاب الذي نذيقكه بسبب ما قدمت يداك: أي قدمته في الدنيا من الكفر ولامعاصي: {وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ} فلا يظلم أحدًا مثقال ذرة. {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] والظاهر أن المصدر المنسبك من أن وصلتها في قوله: {وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ} في محل خفض عطفًا على ما المجرورة بالباء.
والمعنى: هذا العذاب الذي يذيقكه الله حصل لك بسببين، وهما ما قدمته يداك، من عمل اسوء من الكفر والمعاصي وعدالة من جازاك، ذلك الجزاء الوفاق، وعدم ظلمه. وقد أوضحنا فيما مضى إزالة الإشكال المعروف في نفي صيغة المبالغة، في قوله: {لَيْسَ بِظَلاَّمٍ} فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وفي هذه الآية الكريمة ثلاثة أسئلة:
الأول: هو ما ذكرنا آنفًا أنا أوضحنا الجواب عنه سابقًا، وهو: أن المعروف في علم العربية، أن النفي إذا دخل على صيغة المبالغة، لم يقتض نفي أصل الفعل.
فلو قلت: ليس زيد بظلام للناس، فمعناه المعروف: أنه غير مبالغ في الظلم، ولا ينافي ذلك حصول مطلق الظلم منه. وقد قدما إيضاح هذا.
والسؤال الثاني: أنه أسند كل ما قدم إلى يديه في قوله: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} وكفره الذي هو أعظم ذنوبه، ليس من فعل اليد، وإنما هو من فعل القلب واللسان، وإن كان بعض أنواع البطش باليد، يدل على الكفر، فهو في اللسان والقلب أظهر منه في اليد. وزناه لم يفعله بيده، بل بفرجه، ونحو ذلك من المعاصي التي تزاول بغير اليد.
والجواب عن هذا ظاهر: وهو أن من أساليب اللغة العربية، التي نزل بها القران إسناد جميع الأعمال إلى اليد، نظرًا إلى أنها الجارحة التي يزاول بها أكثر الأعمال فغلبت على غيرها، ولا إشكال في ذلك.
والسؤال الثالث: هو أن يقال: ما وجه إشارة البعد في قوله: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} مع أن العذاب المشار إليه قريب منه حاضر؟.
والجواب عن هذا: أن من أساليب اللغة العربية: وضع إشارة البعد موضع إشارة القرب. وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في الكلام على قوله تعالى في أول سورة البقرة: {الم ذَلِكَ الكتاب} [البقرة: 1- 2] الآية: أي هذا الكتاب.
ومن شواهد ذلك في اللغة العربية قول خفاف بن ندبة السلمي:
فإن تك خيلي قد أصيب صميمها ** فعمدًا على عيني تيممت مالكا

أقول له والرمح يأطر متنه ** تأمل خفافًا إنني أنا ذلكما

يعني أن هذا، وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أن الكافر يقال له يوم القيامة {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} الآية لا يخفى أنه توبيخ، وتقريع، وإهانة له، وأمثال ذلك القول في القرآن كثيرة: كقوله تعالى: {خُذُوهُ فاعتلوه إلى سَواء الجحيم ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم إِنَّ هذا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} [الدخان: 47- 50] وقوله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هذه النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ اصلوها فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَواء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 13- 16] والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًّا. اهـ.

.قال الشعراوي:

{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} أي: أن ما حدث في خَلْق الإنسان تكوينًا، وما حدث في إنبات الزرع تكوينًا ونماءً، يردُّ هذا كله إلى أن الله تعالى: {هُوَ الحق } [الحج: 6] فلماذا أتى بالحق ولم يقُلْ الخالق؟ قالوا: لأن الخالق قد يخلق شيئًا ثم يتخلى عنه، أمّا الله- سبحانه وتعالى- فهو الخالق الحق، ومعنى الحق أي: الثابت الذي لا يتغير، كذلك عطاؤه لا يتغير، فسوف يظل سبحانه خالقًا يعطيك كل يوم؛ لأن عطاءه سبحانه دائم لا ينفد.
وإذا نظرتَ إلى الوجود كله لوجدته دروة مكررة، فالله عز وجل قد خلق الأرض وقدَّر فيها أقواتها، فمثلًا كمية الماء التي خلقها الله في الكون هي هي لم تَزِدْ ولم تنقص؛ لأن للماء دورة في الحياة، فالماء الذي تشربه طوال حياتك لا يُنقص في كمية الماء الموجود؛ لأنه سيخرج منك على صورة فضلات ليعود في دورة الماء في الكون من جديد.
وهكذا في الطعام الذي تأكله، وفي الوردة الجميلة الطرية التي نقطفها، كل ما في الوجود له دورة يدور فيها، وهذا معنى: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا } [فصلت: 10]
فمعنى: {الحق } [الحج: 6] هنا الثابت الذي لا يتغير في الخَلْق وفي العطاء. فلا تظن أن عطاء الله لك شيء جديد، إنما هو عطاء قديم يتكرر لك ولغيرك.
ثم يقول تعالى: {وَأَنَّهُ يُحْيِي الموتى } [الحج: 6] كما قُلْنا في الآية السابقة: {وَتَرَى الأرض هَامِدَةً } [الحج: 5] أي: ساكنة لا حياةَ فيها، والله وحده القادر على إحيائها؛ لذلك نجد علماء الفقه يُسمُّون الأرض التي نصلحها للزراعة إحياء الموات فالله تعالى هو القادر وحده على إحياء كل ميت؛ لذلك يقول بعدها: {وَأَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج: 6]
وما دام الأمر كذلك وما دُمْتم تشاهدون آية إحياء الموات في الأرض المتية فلا تنكروا البعث وإعادتكم بعد الموت. فيقول تعالى: {وَأَنَّ الساعة آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا }.
وقد سبق أن أنكروا البعث بعد الموت وقالوا: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَآؤُنَا الأولون} [الصافات: 16- 17].
فيردُّ عليهم الحق سبحانه: نعم، سنعيدكم بعد الموت، والذي خلقكم من لا شيءَ قادرٌ على إعادتكم من باب أَوْلَى؛ لذلك يقول تعالى: {وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ } [الروم: 27] والحق سبحانه هنا يخاطبنا على قَدْر عقولنا؛ لأننا نفهم أن الخَلْق من موجود أهون من الخَلْق من عدم، أما بالنسبة للخالق-عز وجل- فليس هناك سَهْل وأسهل، ولا هين وأهْون.
فقوله تعالى: {وَأَنَّ الساعة آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا } [الحج: 7] كأن عملية إحياء الموتى ليست مُنْتهى قدرة الله، إنما في قدرته تعالى كثير من الآيات والعجائب، ومعنى: {لاَّ رَيْبَ فِيهَا } [الحج: 7] أي: لا شَكَّ فيها. والساعة: أي: زمن القيامة وموعدها، لَكِن القيامة ستكون للحساب وللفَصْل بين الناس، فلابد من بَعْثهم من القبور؛ لذلك يقول بعدها: {وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَن فِي القبور} [الحج: 7].